الحرب على غزة- هل تُنذر بفوضى عالمية وتصادم قوى عظمى؟

المؤلف: د. سعيد الحاج11.18.2025
الحرب على غزة- هل تُنذر بفوضى عالمية وتصادم قوى عظمى؟

يتفق أغلب المحللين والخبراء على أن العدوان الحالي على غزة يختلف جوهريًا عن الصدامات السابقة بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال، مما أوجد تداعيات إقليمية وعالمية جمة ومحتملة، بل إن بعض الأصوات ذهبت إلى التنبؤ بأنها قد تسهم في إشعال فتيل حرب عالمية ثالثة.

التأثيرات

إذا ما نظرنا إلى خريطة العالم، نجد أن فلسطين تكاد لا تظهر بجانب الدول ذات المساحات الشاسعة، ويمثل قطاع غزة بقعة صغيرة لا تتجاوز 2% من مساحة فلسطين الكلية (360 كلم2). وبالرغم من هذه المساحة المحدودة، إلا أن الحرب الدائرة رحاها على غزة فرضت نفسها بقوة على الساحة الدولية، وذلك نظرًا لطبيعتها الاستثنائية من حيث التخطيط والتنفيذ والأبعاد الرمزية، بالإضافة إلى التبعات المحتملة على الاحتلال والقضية الفلسطينية برمتها.

وتتجلى أهميتها في رمزية القضية الفلسطينية الراسخة، وتتباين مواقف الأطراف الدولية حيالها. بالإضافة إلى ذلك، يبرز السياق الإقليمي والدولي الذي تجري فيه الأحداث، وما يشهده من تطورات ذات تأثير بالغ، كجائحة كورونا العالمية، والحرب الروسية الأوكرانية التي ألقت بظلالها على الساحة الدولية، ومسار التطبيع العربي مع الكيان المحتل على الصعيد الإقليمي.

لذلك، انكب العديد من الباحثين على دراسة الانعكاسات الإقليمية والدولية المحتملة للحرب على غزة. فعلى الصعيد الإقليمي، يتمثل الخطر الأكبر في احتمال توسع نطاق الصراع ليتحول إلى مواجهة إقليمية شاملة، وهو احتمال تتزايد فرص حدوثه تدريجيًا، على الرغم من عدم رغبة الأطراف المعنية في ذلك. كما أن مسار التطبيع العربي مع دولة الاحتلال يبدو مجمدًا مؤقتًا على أقل تقدير. بالإضافة إلى ذلك، يتم إعادة تقييم مواقف مختلف الأطراف حيال الصراع، وبالتالي تقييم أدوارها وكيفية التعامل معها في المستقبل، فضلاً عن التداعيات المحتملة للحرب على استقرار بعض الأنظمة السياسية وردود الفعل الداخلية فيها.

أما فيما يتعلق بالانعكاسات الدولية، فإنها تتركز بشكل أساسي على مواقف بعض الدول الغربية، بما في ذلك حكوماتها ومؤسساتها ووسائل الإعلام التابعة لها، ومدى انخراطها في الحرب (كما هو الحال مع الولايات المتحدة). وبالتالي، فإن كل ذلك سينعكس على العلاقات المستقبلية مع هذه الدول، وعلى النظرة إلى الحضارة والقيم الغربية. وتعدّ حركة المقاطعة المتنامية للشركات الداعمة للاحتلال مجرد مؤشر بسيط على عمق الفجوة التي اتسعت مؤخرًا بين العالمين العربي والإسلامي ومعظم الدول الغربية.

يجادل الكثيرون بأن الوضع الراهن لا يوحي بأي احتمال لاندلاع حرب عالمية ثالثة على خلفية العدوان على غزة، بالنظر إلى المواقف "المتريثة" التي تتخذها كل من الصين وروسيا، وبدرجة أقل إيران التي أعربت مرارًا وتكرارًا عن عدم رغبتها في التورط في صراع واسع النطاق. وهذا الطرح يحمل في طياته قدرًا كبيرًا من الصحة.

حرب عالمية

يبقى أحد أهم المحاور التي تدور حولها النقاشات المتعلقة بالحرب على غزة وتداعياتها الدولية هو مدى إمكانية أن تسهم هذه الحرب في الوصول إلى حالة حرب عالمية ثالثة. هناك من يرى أن هذا الاحتمال مبالغ فيه، بينما يرى آخرون أنه احتمال وارد، مما يستدعي ضرورة مناقشة هذا الأمر بعمق.

يعرّف العديد من الخبراء الحرب العالمية بأنها مواجهة مسلحة تشارك فيها دول عديدة من قارات مختلفة، بينما يصفها البعض الآخر ببساطة بأنها حرب بين القوى العظمى المتنافسة.

بالعودة إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، نجد أن فترة زمنية طويلة تخللتها العديد من التطورات والصراعات قد انقضت قبل أن يطلق أحدهم مصطلح "حرب عالمية" أو "الحرب الكبرى" على ما كان يجري. في الأساس، ما يحدث هو سلسلة من المواجهات المسلحة والحروب التي تتطور وتتسبب في مواجهات إضافية، مما يؤدي إلى اتساع نطاق الصراع، ودخول أطراف جديدة إلى الحرب بشكل مستمر، حتى تصل الأمور إلى نقطة اللاعودة.

وبعيدًا عن الأسباب المباشرة التي غالبًا ما توصف بأنها "غير حقيقية"، هناك أسباب جوهرية وراء نشوب الحروب العالمية، وفي مقدمتها الأزمات الاقتصادية المتفاقمة، والتنافس الحاد بين الدول، وخاصة القوى العظمى، وانتشار التيارات اليمينية المتطرفة وتزايد نفوذها، ووجود مناطق نزاع مشتعلة أو قابلة للاشتعال في أي لحظة، وقيادات متهورة، وأخيرًا ضعف المؤسسات الدولية التي من المفترض أن تكون بمثابة مرجعية ضابطة.

وعلى هذا النحو، كان الكساد الكبير الذي ضرب العالم في عام 1929، وصعود التيارات النازية والفاشية، وظهور قادة متطرفين أمثال هتلر وموسوليني، وسباق التسلح المحموم، والتحالفات المتشكلة، وعجز عصبة الأمم عن منع ومعالجة غزو اليابان لمنشوريا عام 1931، وغزو إيطاليا لإثيوبيا عام 1935، ثم اجتياح ألمانيا لبولندا عام 1939، كلها أسباب مباشرة أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.

حرب غزة

في الوقت الراهن، لا يمكن إغفال التشابه الكبير بين الأوضاع الدولية الراهنة وتلك التي كانت سائدة عشية الحرب العالمية الثانية. فالأزمات الاقتصادية العالمية المتكررة التي فاقمتها جائحة كورونا، وحالة التنافس الشديد بين الولايات المتحدة من جهة، وكل من الصين وروسيا من جهة أخرى، والمناطق الملتهبة، مثل أوكرانيا وفلسطين وسوريا وجنوب القوقاز، والنزاعات المحتملة، مثل بحر الصين الجنوبي وشرق المتوسط والبلقان، وتزايد حضور اليمين المتطرف في الدول الغربية، كلها عوامل تخلق بيئة دولية متوترة وشديدة الشبه بظروف ما قبل عام 1939، خاصة إذا أضفنا إليها ضعف الأمم المتحدة ومجلس أمنها.

صحيح أن الانتقادات الموجهة إلى النظام الدولي المجحف وأداء مجلس الأمن المتخاذل في القضايا الدولية ليست وليدة اليوم، وأن الدعوات إلى إصلاح النظام الدولي تتكرر باستمرار، إلا أن الأمم المتحدة بقيت حاضرة على الرغم من الثغرات والأخطاء التي تشوبها. لكن الحرب على غزة فاقمت من حالة العجز التي تعاني منها، وعدم اكتراث القوى الكبرى بها.

لقد فشل مجلس الأمن الدولي مرارًا وتكرارًا في إصدار قرار بوقف إطلاق النار في غزة، ويعزى ذلك في معظم الأحيان إلى استخدام الولايات المتحدة (ودول أخرى) حق النقض (الفيتو). في المقابل، صدرت عنه قرارات تتعلق بهدن إنسانية وإدخال مساعدات بعد امتناع واشنطن عن التصويت، وهو ما تم التوصل إليه بعد مفاوضات ومساومات وضغوط مارستها واشنطن بهدف تغيير نص القرارات المقترحة، مهددة باستخدام الفيتو.

وهكذا، على الرغم من أن 120 دولة من أصل 193 في الجمعية العامة صوتت لصالح قرار يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار (بتاريخ 27 أكتوبر 2023)، وتصويت 153 دولة على قرار مماثل في 12 ديسمبر 2023، إلا أن واشنطن استخدمت الفيتو ضد كل قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار، بما في ذلك القرار الصادر في 8 ديسمبر من العام الماضي، بينما سمحت بمرور القرار الصادر في 22 ديسمبر الذي يدعو إلى إدخال مساعدات، وذلك بالامتناع عن التصويت بعد رفضها تضمين نص القرار دعوة إلى وقف إطلاق النار.

تكشف توجهات التصويت في كل من الجمعية العامة ومجلس الأمن كيف أن دولة واحدة تمتلك حق النقض يمكنها أن تحول دون اتخاذ المؤسسة الدولية قرارًا تريده الغالبية الساحقة من دول العالم، ويحول دون وقف إبادة شعب، وكيف يتحول مجلس الأمن إلى مؤسسة عاجزة إزاء أي قضية تخص إحدى الدول الخمس دائمة العضوية.

في المقابل، يرى الكثيرون أن الواقع الحالي لا ينبئ باحتمال نشوب حرب عالمية ثالثة على هامش العدوان على غزة، نظرًا للمواقف "الهادئة" التي تتخذها كل من الصين وروسيا، وبدرجة أقل إيران التي أعربت مرارًا وتكرارًا عن عدم رغبتها في الانخراط في هذا الصراع. وهذا الطرح يحمل في طياته قدرًا كبيرًا من المصداقية.

ولكن تجدر الإشارة إلى أن احتمالات التوسع قائمة وتتزايد كلما استمر العدوان على غزة، واستمر انخراط بعض الأطراف، مثل حزب الله في لبنان، وأنصار الله/الحوثيين في اليمن، حيث أن مستويات التوتر والضربات المتبادلة في مختلف الجبهات في تصاعد مستمر.

ولا ينبغي التغاضي عن حقيقة أن العديد من الحروب تندلع أو تتوسع دون إرادة مباشرة من أطرافها، وإنما نتيجة أخطاء غير مقصودة أو حسابات غير دقيقة، أو بسبب تدحرج الأحداث بشكل غير منضبط وغير متعمد.

من جهة أخرى، فإن سعي الولايات المتحدة لاحتواء الحرب وحصرها في غزة قد أدى إلى نتائج عكسية، حيث توسعت وتعمقت، وخاصة في جبهتي جنوب لبنان وجنوب البحر الأحمر.

وكما أن استمرار الحرب وتصاعدها يحملان دائمًا مخاطر توسعها وتعمقها، فإن كل توسع في نطاق الحرب يحمل مخاطر توسع جديد وتعمق أكبر وانخراط أطراف إضافية، لأن كل تغير ملموس يعني ظهور مخاطر جديدة، ووضع مصالح إضافية على المحك، وإضافة حسابات لم تكن قائمة سابقًا.

فاستمرار الحرب على غزة أدى إلى انخراط حزب الله والحوثيين، واستمرار ذلك يحمل مخاطر انخراط إيران فيها، وإذا ما حدث ذلك لأي سبب، فإن ذلك يزيد من احتمالات تدخل روسيا أو الصين بدرجة أو بأخرى.

وإذا كان البعض يرى أن الانتخابات الرئاسية الأميركية تشكل مانعًا قويًا لتوسع الحرب، انطلاقًا من عدم رغبة واشنطن في ذلك، فإن هذا المعطى تحديدًا قد يدفع أطرافًا أخرى لمحاولة اختبار حدود الموقف الأميركي وسقف صبره في هذا الإطار.

ولعل مقتل ثلاثة جنود أميركيين في القاعدة الموجودة في الأردن يشكل مثالًا جيدًا على "المعضلة الأمنية" المتمثلة في تصاعد مساعي الردع والردع المقابل، واختبار الحدود من الجانبين، مما ينذر باحتمال خروج الأمور عن السيطرة عند نقطة معينة.

وختامًا، لا شك أن الحرب على غزة ليست سببًا مباشرًا، فضلًا عن أن تكون سببًا كافيًا، لنشوب حرب عالمية، أو على الأقل انخراط قوى عظمى في مواجهة أخرى. إلا أن إضافة السياق الدولي والإقليمي والعوامل سالفة الذكر تشير بوضوح إلى أن هذه الحرب تزيد من إضعاف النظام الدولي القائم وزعزعته، وإضعاف المؤسسات الدولية المرجعية، وبالتالي ترفع من احتمال تصادم القوى العظمى.

الحرب على غزة، وَفق هذا المنظور، تضيف إلى السياق الدولي السائد حاليًا حلقة إضافية، وتسرع من خطواته نحو عالم متعدد الأقطاب أو نحو الفوضى والصدام. ويبقى التاريخ وتطور الأحداث الفيصل الأفضل لتحديد مآلاتها على الصعيدين الإقليمي والدولي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة